"ثورة هادئة" في المغرب العميق: حين تصبح "تنمية القرب" أولوية قصوى
بعيداً عن صخب النقاشات السياسية الكبرى في العاصمة، تجري في عمق المغرب "ثورة هادئة" وحقيقية، ثورة أبطالها عمال الأقاليم، وأدواتها مشاريع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وهدفها النهائي تقليص الفوارق المجالية والاجتماعية التي طال أمدها. وفي إقليم سطات، أحد أكبر أقاليم جهة الدار البيضاء-سطات، تتجلى هذه الدينامية الجديدة بشكل واضح، حيث تحولت "تنمية القرب" من مجرد شعار إلى ورش مفتوح على مدار الساعة.
منذ تولي الإدارة الترابية الجديدة مهامها، دخل إقليم سطات في سباق مع الزمن لتدارك أي تأخير محتمل في إنجاز المشاريع التنموية، خاصة تلك الممولة في إطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية (INDH). لم تعد الاجتماعات مجرد لقاءات بروتوكولية، بل تحولت إلى "خلايا أزمة" مصغرة، هدفها تشخيص دقيق للحاجيات، رفع العراقيل الإدارية، وتسريع وتيرة تحويل الاعتمادات المالية إلى مشاريع ملموسة على أرض الواقع.
وقد انعكس هذا التوجه بشكل جلي خلال اجتماع اللجنة الإقليمية للتنمية البشرية الأخير، الذي تمت خلاله المصادقة على حزمة مشاريع بقيمة تقارب 45 مليون درهم. لكن الأهم من الرقم، هو طبيعة المشاريع التي تمت المصادقة عليها، والتي تكشف عن تحول في الفلسفة التنموية.
لقد أدركت السلطات الإقليمية أن مفتاح التنمية الحقيقية في العالم القروي يبدأ من فك العزلة. ولهذا، استحوذت مشاريع توفير الماء 
الصالح للشرب وتهيئة المسالك القروية على حصة الأسد من الميزانيات المعتمدة.حرب على العطش: لم يعد مقبولاً في مغرب 2025 أن تقطع النساء والأطفال كيلومترات لجلب الماء. لذلك، تركز المشاريع الجديدة على حفر الآبار، بناء خزانات مائية، ومد شبكات التوزيع لتصل المياه إلى الدواوير الأكثر تضرراً من ندرة المياه، في خطوة لا تهدف فقط لتوفير مادة حيوية، بل لحفظ كرامة الإنسان وتوفير وقته وجهده لأعمال أخرى منتجة.
شرايين التنمية: المسالك الطرقية ليست مجرد إسفلت وحصى، بل هي شرايين تضخ الحياة في الجسد القروي. فكل كيلومتر جديد يتم تعبيده يعني وصولاً أسهل للتلاميذ إلى مدارسهم، وللمرضى إلى المستوصفات، وللفلاحين إلى الأسواق لتسويق منتجاتهم. إنها معركة حقيقية ضد العزلة الجغرافية والاقتصادية.
تجسيداً للفلسفة الملكية للمبادرة، التي تضع الرأسمال البشري في صلب أولوياتها، تحظى برامج دعم قطاعي الصحة والتعليم بأهمية قصوى. ويشمل ذلك تجهيز المستوصفات القروية، دعم دور الأمومة لتقليص وفيات الأمهات والرضع، وتوفير النقل المدرسي للحد من الهدر المدرسي، خاصة في صفوف الفتيات. إنه استثمار استراتيجي في أجيال المستقبل، وإدراك عميق بأن لا تنمية حقيقية بدون مواطن متعلم وفي صحة جيدة.
إن ما يحدث اليوم في إقليم سطات، وفي عدة أقاليم أخرى بالمملكة، هو أكثر من مجرد إنجاز مشاريع. إنه تحول في العقلية الإدارية، التي أصبحت أكثر قرباً من الميدان، وأكثر استجابة للحاجيات الحقيقية للمواطنين. إنها ترجمة فعلية لمفهوم "الدولة الاجتماعية"، التي لا تكتفي بتقديم الدعم المباشر، بل تعمل على بناء أسس التنمية المستدامة من القاعدة، لضمان وصول ثمار النمو إلى كل شبر من تراب الوطن، وتحقيق العدالة المجالية التي تظل الرهان الأكبر لمغرب اليوم والغد.
 
تعليقات
إرسال تعليق