القائمة الرئيسية

الصفحات

على رصيف الجوع في غزة.. لقمة واحدة لروحين

 


في صخب العدسات التي ترصد الصواريخ والدمار، ومن بين ركام الأبنية التي كانت يومًا منازل دافئة، تظهر صورة صامتة تختزل فصاحة العالم أجمع. ليست مجرد لقطة، بل هي وثيقة إنسانية دامغة، بطلها طفل حافي القدمين، يجلس على حافة عالم منسي، لا يملك سوى طبقٍ شحيح، لكنه يملك قلباً يتسع ليشمل كائناً آخر يشاركه مرارة الحرمان.

بعينين تحملان من الحزن ما يفوق سنوات عمره القليلة، ينظر الطفل إلى الكاميرا، بينما يده الصغيرة تمتد لتقاسم طعامه، ربما آخر ما لديه، مع قطة هزيلة وقفت بجانبه في تحالف صامت فرضه الجوع. هذا المشهد، البسيط في تكوينه، المعقد في دلالاته، هو أقسى بيان يمكن أن يُكتب عن غزة اليوم.

إنه بيان عن الجوع كسلاح، وعن البراءة كضحية. في هذه الصورة، لا نرى مجرد طفل يطعم حيواناً، بل نرى الإنسانية في أنقى صورها وأكثرها بدائية، تتحدى الوحشية المحيطة بها. فعل المشاركة هذا، في ذروة الحاجة، هو فعل مقاومة نبيل ضد محاولات سحق الروح وتجريد الإنسان من جوهره. لقد اختار هذا الطفل، الذي سُلِب منه كل شيء تقريباً، ألا يتخلى عن الرحمة.

تضعنا هذه اللقطة أمام مرآة أخلاقية فاضحة. ففيما يتقاسم الطفل كسرة خبزه مع قطة، يقف عالم مكتظ بالوفرة مكتوف الأيدي، يراقب فصول المجاعة تتوالى. إن هذا الطفل لم يطعم القطة وحدها، بل أطعم ضمير العالم المثقل بالصمت، وذكّره بأن قيمة الحياة لا تُقاس بالسعرات الحرارية، بل بلحظات التعاطف التي تجعلنا بشراً.

تلك القطة الواقفة بجانب الطفل ليست مجرد حيوان جائع، بل هي رمز لكل الأرواح الصامتة، من بشر وحيوان ونبات، التي تُسحق تحت وطأة الحرب دون أن تدخل في إحصائيات الضحايا الرسمية. هي جزء من حياة مدنية كاملة يتم اغتيالها ببطء.

قد تتلاشى عناوين الأخبار وتُنسى أرقام الضحايا، لكن صورة هذا الطفل ستبقى شاهدة أبدية. إنها ليست مجرد دعوة للشفقة، بل هي صرخة لإيقاظ الضمائر، وسؤال معلق في وجه الإنسانية جمعاء: إذا كان طفل محاصر يملك من النبل ما يكفي ليتقاسم جوعه، فما هو العذر الذي يملكه عالمنا ليبقى متفرجاً؟

تعليقات